فصل: من الآية 156: 200 من سورة آل عمران

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


الوجه الثاني‏:‏ وهو أن جميع الآيات الدالّة على أن بعض الرسل قتلهم أعداء اللَّه كلها في قتل بني إسرائيل أنبياءهم، في غير جهاد، ومقاتله إلا موضع النزاع وحده‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن ما رجحناه من أن نائب الفاعل ربيون، تتفق عليه آيات القرءَان اتفاقًا واضحًا، لا لبس فيه على مقتضى اللسان العربي في أفصح لغاته، ولم تتصادم منه آيتان، حيث حملنا الرسول المقتول على الذي لم يؤمر بالجهاد، فقتله إذن لا إشكال فيه، ولا يؤدي إلى معارضة آية واحدة من كتاب اللَّه؛ لأن اللَّه حكم للرسل بالغلبة، والغلبة لا تكون إلا مع مغالبة، وهذا لم يؤمر بالمغالبة في شىء، ولو أمر بها في شىء لغلب فيه، ولو قلنا بأن نائب الفاعل ضمير النبي لصار المعنى أن كثيرًا من الأنبياء المقاتلين قتلوا في ميدان الحرب، كما تدل عليه صيغة ‏{‏وكأين‏}‏ المميزة بقوله‏:‏ ‏{‏من نبي‏}‏، وقتل الأعداء هذا العدد الكثير من الأنبياء المقاتلين في ميدان الحرب مناقض مناقضة صريحة لقوله‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏، وقد عرفت معنى الغلبة في القرءَان، وعرفت أنه تعالى، بين أن المقتول غير الغالب، كما تقدم، وهذا الكتاب العزيز ما أنزل ليضرب بعضه بعضًا، ولكن أنزل ليصدق بعضه بعضًا، فاتضح أن القرءَان دلّ دلالة واضحة على أن نائب الفاعل ربيون، وأنه لم يقتل رسول في جهاد، كما جزم به الحسن البصري وسعيد بن جبير، والزجاج، والفراء، وغير واحد، وقصدنا في هذا الكتاب البيان بالقرءَان،

لا بأقوال العلماء، ولذا لم ننقل أقوال من رجح ما ذكرنا‏.‏

وما رجح به بعض العلماء كون نائب الفاعل ضمير النبي من أن سبب النزول يدل على ذلك؛ لأن سبب نزولها أن الصائح صاح قتل محمّد صلى الله عليه وسلم وأن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ‏}‏، يدلّ على ذلك وأن قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ‏}‏، يدلّ على أن الربيين لم يقتلوا؛ لأنهم لو قتلوا لما قال عنهم‏:‏ ‏{‏فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ‏}‏، فهو كلام كله ساقط وترجيحات لا معول عليها فالترجيح بسبب النزول فيه أن سبب النزول لو كان يقتضي تعيين ذكر قتل النبيّ لكانت قراءة الجمهور قاتل بصيغة الماضي من المفاعلة جارية على خلاف المتعين وهو ظاهر السقوط كما ترى والترجيح بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ‏}‏، ظاهر السقوط؛ لأنهما معلقان بأداة الشرط والمعلق بها لا بدل على وقوع نسبة أصلاً لا إيجابًا، لا سلبًا حتى يرجح بها غيرها‏.‏

وإذا نظرنا إلى الواقع في نفس الأمر وجدنا نبيهم صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لم يقتل ولم يمت والترجيح بقوله‏:‏ ‏{‏فما وهنوا‏}‏، سقوطه كالشمس في رابعة النهار وأعظم دليل قطعي على سقوطه قراءة حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ‏}‏، كل الأفعال من القتل لا من القتال وهذه القراءة السبعية المتواترة فيها‏.‏ فإن قتلوكم بلا ألف بعد القاف فعل ماض من القتل فاقتلوهم أفتقولون هذا لا يصح؛ لأن المقتول لا يمكن أن يؤمر بقتل قاتله‏.‏ بل المعنى قتلوا بعضكم وهو معنى مشهور في اللغة العربية يقولون‏:‏ قتلونا وقتلناهم، يعنون وقوع القتل على البعض كما لا يخفى‏.‏ وقد أشرنا إلى هذا البيان في كتابنا ‏"‏ دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ‏"‏، والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}

، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الاٌّرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا مات بعض إخوانهم يقولون لو أطاعونا فلم يخرجوا إلى الغزو ما قتلوا، ولم يبيّن هنا هل يقولون لهم ذلك قبل السفر إلى الغزو ليثبطوهم أو لا ‏؟‏ ونظير هذه الآية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‏}‏، ولكنه بيّن في آيات أُخر أنهم يقولون لهم ذلك قبل الغزو ليثبطوهم كقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

‏{‏وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ‏}‏

، وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ذكر في هذه الآية الكريمة أن المقتول في الجهاد والميت كلاهما ينال مغفرة من اللَّه ورحمة خيرًا له مما يجمعه من حطام الدنيا وأوضح وجه ذلك في آية أخرى بيّن فيها أن اللَّه اشترى منه حياة قصيرة فانية منغصة بالمصائب والآلام بحياة أبدية لذيذة لا تنقطع ولا يتأذى صاحبها بشىء واشترى منه مالاً قليلاً فانيًا بملك لا ينفذ ولا ينقضي أبدًا، وهي قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا‏}‏، وبيّن في آية أخرى أن فضل اللَّه ورحمته خير مما يجمعه أهل الدنيا من حطامها وزاد فيها الأمر بالفرح بفضل اللَّه ورحمته دون حطام الدنيا، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏، وتقديم المعمول يؤذن بالحصر أعني قوله‏:‏ ‏{‏فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ‏}‏، أي‏:‏ دون غيره فلا يفرحوا بحطام الدنيا الذي يجمعونه‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمةُُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏

‏.‏ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ قد قدمنا في سورة ‏"‏ الفاتحة ‏"‏ في الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏، أن الجموع المذكرة ونحوها مما يختص بجماعة العقلاء من الذكور إذا وردت في كتاب اللَّه تعالى أو سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، اختلف العلماء فيها هل يدخل النساء أو لا يدخلن ‏؟‏ إلا بدليل على دخولهن وبذلك تعلم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ يحتمل دخول النساء فيه وعدم دخولهن بناء على الاختلاف المذكور، ولكنّه تعالى بيّن في موضع آخر أنهنّ داخلات في جملة من أمر صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لهم، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ‏}‏‏.‏

{‏أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ‏}‏

، أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ ذكر في هذه الآية أن من اتبع رضوان اللَّه ليس كمن باء بسخط منه؛ لأن همزة الإنكار بمعنى النفي ولم يذكر هنا صفة من اتبع رضوان اللَّه، ولكن أشار إلى بعضها في موضع آخر وهو قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ‏}‏‏.‏

وأشار إلى بعض صفات من باء بسخط من اللَّه بقوله‏:‏ ‏{‏تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ‏}‏، وبقوله هنا‏:‏ ‏{‏وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ‏}‏‏.‏

‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏

، أَوَ لَمَّا أَصَـابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىا هَـاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ذكر في هذه الآية الكريمة أن ما أصاب المسلمين يوم أُحد إنما جاءهم من قبل أنفسهم، ولم يبيّن تفصيل ذلك هنا ولكنه فصله في موضع آخر وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، وهذا هو الظاهر في معنى الآية؛ لأن خير ما يبين به القرءَان القرءَان‏.‏

وأما على القول الآخر فلا بيان بالآية، وهو أن معنى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏، أنهم خيروا يوم بدر بين قتل أسارى بدر، وبين أسرهم وأخذ الفداء على أن يستشهد منهم في العام القابل قدر الأسارى، فاختاروا الفداء على أن يستشهد منهم في العام القابل سبعون قدر أسارى بدر، كما رواه الإمام أحمد وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب، وعقده أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي بقوله‏:‏ والمسلمون خيروا بين الفدا وقدرهم في قابل يستشهدا

وبين قتلهم فمالوا للفدا لأنه على القتال عضدا

وأنه أدى إلى الشهادة وهي قصارى الفوز والسعادة

ونظمه هذا للمغازي جلّ اعتماده فيه على ‏"‏عيون الأثر‏"‏ لابن سيد الناس اليعمري، قال في مقدمته‏:‏ أرجوزة على عيون الأثر جلّ اعتماد نظمها في السير

وذكر شارحة أن الألف في قوله يستشهدًا مبدلة من نون التوكيد الخفيفة وأنها في البيت كقوله‏:‏ ربما أوفيت في علم ترفعن ثوبي شمالات

وعلى هذا القول‏:‏ فالمعنى قل هو من عند أنفسكم حيث اخترتم الفداء واستشهاد قدر الأسارى منكم‏.‏

‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏

‏.‏ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً نهى اللَّه تبارك وتعالى في هذه الآية عن ظن الموت بالشهداء، وصرح بأنهم ‏{‏أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‏}‏، وأنهم فرحون ‏{‏فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ‏}‏، ‏{‏وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏ ولم يبيّن هنا هل حياتهم هذه في البرزخ يدرك أهل الدنيا حقيقتها أو لا ‏؟‏ ولكنه بيّن في سورة ‏"‏البقرة‏"‏ أنهم لا يدركونها بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ‏}‏؛ لأن نفي الشعور يدل على نفي الإدراك من باب أولى كما هو ظاهر‏.‏

{‏الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏

‏.‏ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ قال جماعة من العلماء‏:‏ المراد بالناس القائلين‏:‏ ‏{‏إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ‏}‏، نعيم بن مسعود الأشجعي أو أعرابي من خزاعة‏.‏ كما أخرجه ابن مردويه من حديث أبي رافع ويدلّ لهذا توحيد المشار إليه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ‏}‏‏.‏

قال صاحب ‏"‏ الإتقان ‏"‏‏)‏، قال الفارسي‏:‏ ومما يقوي أن المراد به واحد قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ‏}‏، فوقعت الإشارة بقوله‏:‏ ‏"‏ذَلِكُمُ‏"‏ إلى واحد بعينه، ولو كان المعنى جمعًا لقال‏:‏ إنما أُولئكم الشيطان‏.‏ فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ‏.‏ اهـ منه بلفظه‏.‏

‏{‏وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ‏}‏

، وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاًّنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوااْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يملي للكافرين ويمهلهم لزيادة الإثم عليهم وشدة العذاب‏.‏ وبيّن في موضع آخر أنه لا يمهلهم متنعمين هذا الإمهال إلا بعد أن يبتليهم بالبأساء والضراء، فإذا لم يتضرعوا أفاض عليهم النعم وأمهلهم حتى يأخذهم بغتة، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ إلى قوله ‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ‏}‏‏.‏

وبيّن في موضع آخر‏:‏ أن ذلك الاستدراج من كيده المتين، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ‏}‏‏.‏

وبيْن في موضع آخر‏:‏ أن الكفار يغترون بذلك الاستدراج فيظنون أنه من المسارعة لهم في الخيرات، وأنهم يوم القيامة يؤتون خيرًا من ذلك الذي أوتوه في الدنيا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏‏.‏ كما تقدم، والبأساء‏:‏ الفقر والفاقة، والضراء‏:‏ المرض على قول الجمهور، وهما مصدران مؤنثان لفظًا بألف التأنيث الممدودة‏.‏

‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ‏}‏

، لَتُبْلَوُنَّ فِىا أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوااْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الاٍّمُورِ ذكر في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين سيبتلون في أموالهم وأنفسهم، وسيسمعون الأذى الكثير من أهل الكتاب والمشركين، وأنهم إن صبروا على ذلك البلاء والأذى واتقوا اللَّه، فإن صبرهم وتقاهم ‏{‏مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ‏}‏، أي‏:‏ من الأمور التي ينبغي العزم والتصميم عليها لوجوبها‏.‏

وقد بيّن في موضع آخر أن من جملة هذا البلاء‏:‏ الخوف والجوع وأن البلاء في الأنفس والأموال هو النقص فيها، وأوضح فيه نتيجة الصبر المشار إليها هنا بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ‏}‏، وذلك الموضع هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ‏}‏، وبقوله‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏، ويدخل في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏، الصبر عند الصدمة الأولى، بل فسره بخصوص ذلك بعض العلماء، ويدل على دخوله فيه قوله قبله‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

وبيّن في موضع آخر أن خصلة الصبر لا يُعطاها إلا صاحب حظٍ عظيم وبخت كبير، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}‏، وبيّن في موضع آخر أن جزاء الصبر لا حساب له، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏}‏

، وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالاٌّرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَـاطِلاً سُبْحَـانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ذكر في هذه الآية أن من جملة ما يقوله أُولوا الألباب تنزيه ربهم عن كونه خلق السماوات والأرض باطلاً، لا لحكمة سبحانه تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا‏.‏

وصرح في موضع آخر بأن الذين يظنون ذلك هم الكفار، وهددهم على ذلك الظن السَّيِّىء بالويل من النار، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ‏}‏‏.‏

‏{‏لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏

، وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ لم يبيّن هنا ما عنده للأبرار، ولكنه بيّن في موضع آخر أنه النعيم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ‏}‏، وبيّن في موضع آخر أن من جملة ذلك النعيم الشرب من كأس ممزوجة بالكافور، وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا‏}‏‏.‏

تم تفسير سورة آل عمران بحمد الله وتوفيقه